فصل: السنة الأولى من سلطنة الملك المنصور

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 السنة الأولى من سلطنة الملك المنصور

وهي سنة خمس وتسعين وخمسمائة على أن الملك العزيز والده حكم منها نحو العشرين يومًا من المحرم كما تقدم ذكره‏.‏

فيها حج بالناس من بغداد مظفر الدين وجه السبع‏.‏

وفيها كانت وفاة الملك العزيز عثمان حسب ما تقدم ذكره في ترجمته‏.‏

وفيها توفي يحيى بن علي بن الفضل أبو القاسم بن فضلان مدرس النظامية كان فقيهًا بارعًا قم بغداد وناظر وأفتى ودرس وكان مقطوع اليد وقع من الجمل فعملت عليه يده فخيف عليه فقطعت‏.‏

وكانت وفاته في شعبان‏.‏

ومن شعره‏:‏ - رحمه الله تعالى -‏:‏ وإذا أردت منازل الأشراف فعليك بالإسعاف والإنصاف وإذا بغى باغٍ عليك فخله والدهر فهو له مكافٍ كافٍ وفيها توفي يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الملك المنصور أبو يوسف صاحب المغرب‏.‏

كان ملكًا مغازيًا مجاهدًا وهو الذي كسر ألفنش ملك الفرنج المقدم ذكره على الزلاقة وهو أعظم ملوك المغرب وأحسنهم سيرة لما كان جمع من المحاسن‏:‏ الدين والصلاح والشجاعة والكرم والحزم والعزم ودام في ملكه إلى أن مات في شهر ربيع الأول بعد أن أوصى بالملك إلى ولده أبي عبد الله محمد‏.‏

وكانت مدة أيامه خمس عشرة سنة‏.‏

وفيه يقول شاعره أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن عبد الرحمن بن مجير الأندلسي المرسي قصيدته المطولة وعدة أبياتها مائة وسبعة أبيات‏.‏

أولها‏:‏ أتراه يترك الغزلا وعليه شب واكتهلا ومدحه أيضًا إبراهيم بن يعقوب الشاعر المشهور بقصيدة طنانة أولها‏:‏ أزال حجابه عني وعيني تراه من المهابة في حجاب وقربني تفضله ولكن بعدت مهابة عند اقترابي الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر في المحرم وله ثمان وعشرون سنة‏.‏

والحفيد ابن رشد العلامة أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المتكلم‏.‏

وأبو جعفر محمد بن إسماعيل الطرسوسي بأصبهان في جمادى الآخرة‏.‏

وأبو الحسن مسعود بن أبي مسعود الأصبهاني الخياط الجمال في شوال‏.‏

وأبو الفضل منصور بن أبي الحسن الطبري الصوفي الواعظ‏.‏

والعلامة جمال الدين يحيى بن علي بن فضلان البغدادي الشافعي في شعبان‏.‏

وصاحب المغرب المنصور أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن القيسي‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاث أذرع وأربع وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وست عشرة إصبعًا‏.‏

السنة الثانية من سلطنة الملك المنصور محمد ابن الملك العزيز عثمان على مصر على أنه حكم في آخرها من شهر رمضان إلى آخر السنة عم أبيه الملك العادل أبو بكر بن أيوب وهي سنة ست وتسعين وخمسمائة‏.‏

فيها توفي تكش بن أرسلان شاه بن اتسز الملك علاء الدين خوارزم شاه هو من ولد طاهر بن الحسين‏.‏

كان شجاعًا مقدامًا جودًا ملك الدنيا من الضين والهند وما وراء النهر إلى خراسان إلى باب بغداد وكان نوابه في حلوان وكان في ديوانه مائة ألف مقاتل وهو الذي أزال دولة بني سلجوق وكان عارفًا بعلم الموسيقى ولم يكن في زمانه أعرف منه بضرب العود وكان يباشر الحروب بنفسه حتى ذهبت إحدى عينيه في الحرب وكان قد عزم على أخذ بغداد وسار إليهًا فلما وصل إلى دهستان توفي بها في شهر رمضان‏.‏

ووقع له في مسيره إلى أخذ بغداد في هذه المرة طريفة‏:‏ وهو أن الباطنية جهزوا إليه رجلًا ليقتله وكان قوي الاحتراس فجلس تلك الليلة يلعب بالعود وقد شرع الخيمة وغنى بيتًا بالعجمية وفيه ‏"‏ ببيتم ‏"‏ ومعناه بالعجمي‏:‏ أبصرتك وكرر هذه اللفظة فلما سمع الباطني ذلك خاف وظن أنه رآه فهرب فأخذ وحمل إليه فعزره وأمر بقتله‏.‏

فكان ذلك من الطرائف‏.‏

وفيها توفي إمام عصره ووحيد دهره القاضي الفاضل عبد الرحيم ابن القاضي الأشرف أبي المجد علي ابن القاضي السعيد أبي محمد محمد بن الحسن بن الحسين بن أحمد ابن المفرج بن أحمد اللخمي العسقلاني المولد المصري الدار المعروف بالقاضي الفاضل الملقب محيي الدين وزير السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب‏.‏

قال ابن خلكان - رحمه الله -‏:‏ تمكن منه غاية التمكن يعني من صلاح الدين وبرز في صناعة الإنشاء وفاق المتقدمين وله فيه الغرائب مع الإكثار‏.‏

أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد وهو مجيد في أكثرها‏.‏

قال العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب الخريدة في حقه‏:‏ ‏"‏ رب القلم والبيان واللسن واللسان والقريحة الوقادة والبصيرة النقادة والبديهة المعجزة والبديعة المطرزة والفضل الذي ما سمع في الأوائل بمن لو عاش في زمانه لتعلق في غباره أو جرى في مضماره فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع ورسخت بها الصنائع يخترع الأفكار ويفترع الأبكار ويطلع الأنوار ويبدع الأزهار وهو ضابط الملك بآرائه ورابط السلك بآلائه إن شاء أنشأ في اليوم الواحد بل في الساعة ما لو دون لكان لأهل الصناعة خير بضاعة ‏"‏ انتهى كلام العماد باختصار‏.‏

وقال غيره‏:‏ وكان مع فضله كثير العبادة تاليًا للقرآن العزيز دينًا خيرًا وكان السلطان صلاح الدين يقول‏:‏ لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم الفاضل‏.‏

وكان بين الفاضل وبين الملك العادل أبي بكر بن أيوب وحشة فلما بلغ الفاضل مجيء العادل إلى مصر دعا الله على نفسه بالموت فمات قبل دخوله‏.‏

وقيل‏:‏ إن العادل كان داخلًا من باب النصر وجنازة الفاضل خارجة من باب زويلة‏.‏

انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وفضل الفاضل وبلاغته وفصاحته أشهر من أن يذكر‏.‏

ومن شعره‏:‏ قوله‏:‏ وإذا السعادة أحرستك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان واصطد بها العنقاء فهي حبائل واقتد بها الجوزاء فهي عنان وقد استشهد علماء البديع بكثير من شعره في أنواع كثيرة فمما ذكره الشيخ تقي الدين أبو بكر بن حجة في شرح بديعيته في نوع تجاهل العارف ‏"‏ قوله من قصيدة‏:‏ أهذي كفه أم غوث غيثٍ ولا بلغ السحاب ولا كرامه وهذا الجيش أم صرف الليالي ولا سبقت حوادثها زحامه وهذا الدهر أم عبد لديه يصرف عن عزيمته زمامه وهذا فعل غمد أم هلال إذا أمسى كنون أم قلامه وهذا الترب أم خد لثمنا فآثار الشفاه عليه شامه ومنها وهو غير تجاهل العارف ولكنه من المرقص والمطرب‏:‏ وهذا الدر منثور ولكن أروني غير أقلامي نظامه وهذي روضة تندى وسطري بها غصن وقافيتي حمامه وهذا الكأس روق من بناني وذكرك كان من مسك ختامه وذكر أيضًا في ‏"‏ تجاهل العارف ‏"‏ قوله من قصيدة‏:‏ أهذه سير في المجد أم سور وهذه أنجم في السعد أم غرر وأنمل أم بحار والسيوف لها موج وإفرندها في لجها درر وأنت في الأرض أم فوق السماء وفي يمينك البحر أم في وجهك القمر وفيها توفي علي بن نصر بن عقيل المعروف بالهمام البغدادي العبدي الشاعر المشهور قدم وإني لمثرٍ من حياءٍ وعفةٍ وإن لم يكن عندي من المال طائل الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أبو جعفر أحمد بن علي القرطبي المقرئ إمام الكلاسة‏.‏

وإسماعيل بن صالح بن يس بمصر في ذي الحجة‏.‏

وأبو سعيد خليل بن أبي الرجاء الراراني الصوفي في شهر ربيع الآخر وله ست وتسعون سنة‏.‏

والسلطان علاء الدين خوارزم شاه تكش بن خوارزم شاه أرسلان بن أتسز بن محمد في رمضان بالخوانيق وتملك بعده ابنه علاء الدين محمد‏.‏

والقاضي الفاضل أبو علي عبد الرحيم بن علي ابن محمد بن حسن اللخمي البيساني الوزير في شهر ربيع الآخر وله سبع وستون سنة‏.‏

وأبو الحسن عبد اللطيف بن إسماعيل بن أبي سعد الصوفي في ذي الحجة بدمشق‏.‏

وأبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن سعد بن صدقة بن الخضر بن كليب في شهر ربيع الأول وله ست وتسعون سنة وشهر‏.‏

والأثير أبو الفضل محمد بن محمد بن بيان الأنباري ثم المصري الكاتب في شهر ربيع الآخر‏.‏

والعلامة شهاب الدين محمد بن محمود الطوسي بمصر‏.‏

وأبو جعفر - المبارك بن المبارك بن أحمد بن زريق الواسطي الحداد المقرىء‏.‏

أمر النيل لي هذه السنة‏:‏ الماء القديم لم يذكر لقلته‏.‏

وكان مبلغ الزيادة في هذه السنة اثنتي عشرة ذراعًا وإحدى وعشرين سلطنة الملك العادل على مصر هو السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد ابن الأمير أبي الشكر نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان الدويني التكريتي ثم الدمشقي‏.‏

وقد تقدم ذكر نسبه وأصله في ترجمة أخيه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب‏.‏

وقد ذكرنا أيضًا من أحوال العادل هذا نبذة كبيرة في ترجمة أخيه صلاح الدين المذكور وأيضًا في ترجمة أولاده ثم في ترجمة حفيده الملك المنصور محمد ابن الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف الذي خلعه العادل هذا وتسلطن مكانه في العشرين من شوال سنة ست وتسعين وخمسمائة‏.‏

وقد تقدم ذلك كله في ترجمة المنصور محمد المخلوع عن السلطنة‏.‏

ولابد من ذكر شيء من أحوال العادل هنا على حدته وإيراد قطعة جيدة من أقوال الناس في ترجمته - إن شاء الله تعالى -‏.‏

قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبي في تاريخه‏:‏ ‏"‏ ولد ببعلبك في سنة أربع وثلاثين وأبوه نائب عليها للأتابك زنكي والد نور الدين محمود وهو أصغر من أخيه صلاح الدين بسنتين وقيل‏:‏ ولد في سنة ثمان وثلاثين وقيل‏:‏ ولد في أوائل سنة أربعين‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ توفي الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد وهو بكنيته أشهر‏.‏

ومولده ببعلبك وعاش ستًا وسبعين سنة‏.‏

ونشأ في خدمة نور الدين مع أبيه وإخوته وحضر مع أخيه صلاح الدين فتوحاته وقام أحسن قيام في الهدنة مع الأنكلتير ملك الفرنج بعد أخذهم عكا وكان صلاح الدين يعول عليه كثيرًا واستنابه بمصر مدة ثم أعطاه حلب ثم أخذها منه وأعطاها لولده الظاهر وأعطاه الكرك عوضها ثم حران ‏"‏ انتهى كلام الذهبي‏.‏

وقال الشيخ شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله - في وفيات الأعيان‏:‏ ‏"‏ كان الملك العادل قد وصل إلى مصر صحبة أخيه وعمه أسد الدين شيركوه المقدم ذكره‏.‏

وكان يقول‏:‏ لما عزمنا على المسير إلى مصر احتجت إلى جرمدان فطلبته من والدي فأعطاني وقال‏:‏ يا أبا بكر إذا ملكتم مصر أعطوني ملأة ذهبًا‏.‏

فلما جاء إلى مصر قال‏:‏ يا أبا بكر أين الجرمدان‏.‏

فرحت وملأته له من الدراهم السود وجعلت على أعلاها شيئًا من الذهب وأحضرته إليه فلما رآه اعتقده ذهبًا فقلبه فظهرت الفضة السوداء فقال‏:‏ يا أبا بكر تعلمت زعل المصريين‏!‏ قال‏:‏ ولما ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب مصر كان ينوب عنه في حال غيبته بالشام ويستدعي منه الأموال للإنفاق في الجند وغيرهم‏.‏

قال‏:‏ ورأيت في بعض رسائل القاضي الفاضل أن الحمول تأخرت مدة فتقدم السلطان صلاح الدين إلى العماد الأصبهاني أن يكتب إلى أخيه العادل يستحثه على إنفاذها حتى قال‏:‏ يسير لنا الحمل من مالنا أو من ماله‏!‏ فلما وصل الكتاب إليه ووقف على هذا الفصل شق عليه وكتب إلى القاضي الفاضل يشكو من السلطان لأجل ذلك‏.‏

فكتب القاضي الفاضل جوابه وفي جملته‏:‏ ‏"‏ وأما ما ذكره المولى من قوله‏:‏ يسير لنا الحمل من مالنا أو من ماله فتلك لفظة ما المقصود منها من الملك النجعة وإنما المقصود من الكاتب السجعة‏.‏

وكم من لفظة فظة وكلمة فيها غلظة حيرت عيي الأقلام فسدت خلل الكلام‏.‏

وعلى المملوك الضمان في هذه النكتة وقد فات لسان القلم منها أي سكتة ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ولما ملك السلطان يعني صلاح الدين مدينة حلب في صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة كما تقدم ذكره ‏"‏ أعطاها لولده الملك الظاهر غازي ثم أخذها منه و ‏"‏ أعطاها للملك العادل فانتقل إليها وقصد قلعتها يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رمضان من السنة المذكورة ثم نزل عنها للملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين ثم أعطاه السلطان قلعة الكرك وتنقل في الممالك في حياة السلطان صلاح الدين وبعد وفاته‏.‏

وقضاياه مشهورة مع الملك الأفضل والملك العزيز والملك المنصور فلا حاجة إلى الإطالة في شرحها‏.‏

وآخر الأمر أنه استقل بمملكة الديار المصرية‏.‏

وكان دخوله إلى القاهرة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة واستقرت له القواعد‏.‏

وقال أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل ‏"‏ في ترجمة ضياء الدين أبي الفتح نصر الله المعروف بابن الأثير الوزير الجزري ما مثاله‏:‏ وجدت بخطه خطب للملك العادل أبي بكر بن أيوب بالقاهرة ومصر يوم الجمعة الحادي والعشرين من شوال سنة ست وتسعين وخمسمائة وخطب له بحلب يوم الجمعة حادي عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ‏"‏ - والله أعلم بالصواب - هذا ما ذكره ابن خلكان وهو بخلاف ما ذكرناه من أنه خطب له في عاشر شهر رمضان من السنة ويمكن الجمع بين القولين لأننا قلنا في شهر رمضان تخمينًا لأن الاتفاق كان في شهر رمضان ولعل الخطبة كانت في شوال - انتهى‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ وملك مع ذلك البلاد الشامية والمشرقية وصفت له الدنيا ثم ملك بلاد اليمن في سنة اثنتي عشرة وستمائة ‏"‏ و ‏"‏ سير إليها ولد ولده الملك المسعود صلاح الدين أبا المظفر يوسف ابن الملك الكامل محمد الآتي ذكره‏.‏

وكان ولده الملك الأوحد نجم الدين أيوب ينوب عنه في ميافارقين وتلك النواحي فاستولى على مدينة خلاط وبلاد أرمينية واتسعت مملكته وذلك في سنة أربع وستمائة‏.‏

ولما تمهدت له البلاد قسمها بين أولاده فأعطى الملك الكامل محمدًا الديار المصرية وأعطى الملك المعظم عيسى البلاد الشامية وأعطى الملك الأشرف موسى البلاد الشرقية والأوحد في المواضع التي ذكرناها‏.‏

وكان ملكًا عظيمًا ذا رأي ومعرفة تامة قد حنكته التجارب حسن السيرة جميل الطوية وافر العقل حازمًا في الأمور صالحًا محافظًا على الصلوات في أوقاتها متبعًا لأرباب السنة مائلًا إلى العلماء‏.‏

صنف له فخر الدين الرازي ‏"‏ كتاب تأسيس التقديس ‏"‏ وذكر اسمه في خطبته وسيره إليه من بلاد خراسان‏.‏

وبالجملة فإنه كان رجلًا مسعودًا ومن سعادته أنه كان خلف أولادًا لم يخلف أحد من الملوك أمثالهم في نجابتهم وبسالتهم ومعرفتهم وعلو همتهم ودان لهم العباد وملكوا أخيار البلاد‏.‏

ولما مدحه ابن عنين بقصيدته الرائية ذكر منها في مديح أولاده المذكورين فقال‏:‏ وله البنون بكل أرض منهم ملك يقود إلى الأعادي عسكرا من كل وضاح الجبين تخاله بدرًا وإن شهد الوغى فغضنفرا متقدم حتى إذا النقع انجلى بالبيض عن سبي الحريم تأخرا قوم زكوا أصلًا وطابوا محتدًا وتدفقوا جودًا وراقوا منظرا قال‏:‏ ومن جملة هذه القصيدة في مدح الملك العادل هذا قوله ولقد أحسن فيها‏:‏ العادل الملك الذي أسماؤه في كل ناحيةٍ تشرف منبرا وبكل أرضٍ جنة من عدله الص - - افي أسال نداه فيها كوثرا ما في أبي بكر لمعتقد الهدى شك مريث أنه خير الورى سيف صقال المجد أخلص متنه وأبان طيب الأصل منه الجوهرا ما مدحه بالمستعار له ولا آيات سؤدده حديث يفترى بين الملوك الغابرين وبينه في الفضل ما بين الثريا والثرى نسخت خلائقه الحميدة ما أتى في الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا ملك إذا خفت حلوم ذوي النهى في الروع زاد رصانة وتوقرا ثبت الجنان تراع من وثباثه وثباته يوم الوغى أسد الشرى يقظ يكاد يقول عما في غدٍ ببديهة أغنته أن يتفكرا حلم تخف له الحلوم وراءه رأي وعزم يحقر الإسكندرا يعفو عن الذنب العظيم تكرمًا ويصد عن قيل الخنا متكبرا لا تسمعن حديث ملك غيره يروى فكل الصيد في جوف الفرا قال‏:‏ ولما قسم البلاد بين أولاده كان يتردد بينهم ويتنقل من مملكة إلى أخرى وكان يصيف خروفًا لطيفًا مشويًا وكان له في النكاح نصيب وافر‏.‏

وحاصل الأمر أنه كان ممتعًا في دنياه‏.‏

وكانت ولادته بدمشق في المحرم سنة أربعين وقيل‏:‏ ثمان وثلاثين وخمسمائة‏.‏

قلت‏:‏ وافق الذهبي في مولده في السنة مع خلاف ذكره الذهبي فيه وخالفه في المكان الذي ولد فيه فإن الذهبي قال‏:‏ كانت ولادته ببعلبك كما تقدم ذكره‏.‏

قال‏:‏ وتوفي في سابع جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة بعالقين‏.‏

ونقل إلى دمشق ودفن بالقلعة ثاني يوم وفاته ثم نقل إلى مدرسته المعروفة به ودفن بالتربة التي بها وقبره على الطريق يراه المجتاز من الشباك المركب هناك‏.‏

وعالقين بفتح العين المهملة وبعد الألف لام مكسورة وقاف مكسورة أيضًا وياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها نون وهي قرية بظاهر دمشق‏.‏

انتهى كلام ابن خلكان - رحمه الله تعالى - بتمامه‏.‏

وقال غيره‏:‏ ولما افتتح ولده الكامل إقليم أرمينية فرح العادل فرحًا شديدًا وسير أستاداره إيلدكز وقاضي العسكر نجم الدين خليل إلى الخليفة يطلب التقليد بمصر والشام وخلاط وبلاد الجزيرة فأكرمهما الخليفة وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين أبا حفص عمر بن محمد السهروردي بالتشريف ومر بحلب ووعظ بها واحترمه الظاهر غازي صاحب حلب وبعث معه بهاء الدين بن شداد بثلاثة آلاف دينار لينثرها على عمه العادل إذا لبس خلعة الخليفة‏.‏

ولما وصل السهروردي إلى دمشق فرح العادل وتلقاه من القصير وكان يومًا مشهودًا ثم من الغد أفيضت عليه الخلع وهي‏:‏ جبة سوداء بطراز ذهب وعمامة سوداء بطراز ذهب وطوق ذهب فيه جوهر وقلد سيفًا محلى جميع قرابه بالذهب وحصان أشهب بمركب ذهب وعلم أسود مكتوب فيه بالبياض ألقاب الناصر لدين الله‏.‏

ثم خلع السهروردي على ولدي العادل‏:‏ المعظم عيسى والأشرف موسى لكل واحد عمامة سوداء وثوبًا أسود واسع الكم وخلع على الصاحب ابن شكر كذلك‏.‏

ونثر الذهب على رأس العادل من رسل صاحب حلب وحماة وحمص وغيرهم‏.‏

وركب الأربعة أعني العادل وولديه وابن شكر الوزير بالخلع ثم عادوا إلى القلعة وقرأ ابن شكر التقليد على كرسي وخوطب العادل‏:‏ بشاهنشاه ملك الملوك خليل أمير المؤمنين‏.‏

ثم قدم السهروري إلى مصر وخلع على الملك الكامل بن العادل‏.‏

وهو يوم ذاك صاحب مصر نيابة عن أبيه العادل كما تقدم ذكره‏.‏

وقال الموفق عبد اللطيف في سيرة الملك العادل‏:‏ ‏"‏ كان أصغر الإخوة وأطولهم عمرًا وأعمقهم فكرًا وأبصرهم في العواقب وأشدهم إمساكًا وأحبهم للدرهم وكان فيه حلم وأناة وصبر على الشدائد وكان سعيد الجد عالي الكعب مظفرًا بالأعداء من قبل السماء وكان نهمًا أكولًا يحب الطعام واختلاف ألوانه وكان أكثر أكله بالليل كالخيل وله عندما ينام رضيع ويأكل رطلًا بالدمشقي خبيص السكر يجعل هذا كالجوارش وكان كثير الصلاة ويصوم الخميس وله صدقات في كثير من الأوقات وخاصة عندما تنزل به الآفات وكان كريمًا على الطعام يحب من يؤاكله وكان قليل الأمراض‏.‏

قال لي طبيبه بمصر‏:‏ إني آكل خير هذا السلطان سنين كثيرة ولم يحتج إلي سوى يوم واحد أحضر إليه من البطيخ أربعون حملًا فكسر الجميع بيده وبالغ في الأكل منه ومن الفواكه والأطعمة فعرض له تخمة فأصبح فأشرت عليه بشرب الماء الحار وأن يركب طويلًا ففعل وآخر النهار تعشى وعاد إلى صحته‏.‏

وكان نكاحًا يكثر من اقتناء السراري وكان غيورا لا يدخل في داره خصي إلا دون البلوغ وكان يحب أن يطبخ لنفسه مع أن في كل دار من دور حظاياه مطبخًا دائرًا وكان عفيف الفرج لا يعرف له نظر إلى غير حلائله‏.‏

نجب له أولاد من الذكور والإناث سلطن الذكور وزوج البنات بملوك الأطراف‏.‏

وكان العادل قد أوقع الله تعالى بغضته في قلوب رعاياه والمخامرة عليه في قلوب جنده وعملوا في قتله أصنامًا من الحيل الدقيقة مرات كثيرة وعند ما يقال إن الحيلة تفت تنفسح وتنكشف وتحسم موادها ولولا أولاده يتولون بلاده لما ثبت فلكه بخلاف أخيه صلاح الدين فإنه إنما حفظ ملكه بالمحبة له وحسن الطاعة ولم يكن - رحمه الله - بالمنزلة المكروهة وإنما كان الناس قد ألفوا دولة صلاح الدين وأولاده فتغيرت عليهم العادة دفعة واحدة‏.‏

ثم إن وزيره ابن شكر بالغ قال‏:‏ وكان العارز يواظب على خدمة أخيه صلاح الدين يكون أول داخل وآخر خارج وبهذا جلبه وكان يشاوره في أمور الدولة لما جرب من نفوذ رأيه‏.‏

ولما تسلطن الأفضل بدمشق والعزيز بمصر قصد العزيز دمشق ووقع له ما حكيناه إلى أن ملكها‏.‏

قال‏:‏ ثم أخذ العادل يدبر الحيلة حتى يستنيبه العزيز على مصر ويقيم العزيز بدمشق ففطن بعض أصحاب العزيز فرمى قلنسوته بين يديه وقال‏:‏ ألم يكفك أنك أعطيته دمشق حتى تعطيه مصرة فنهض العزيز لوقته على غرة ولحق بمصر‏.‏

قال الموفق‏:‏ ومات الملك الظاهر غازي قبله بسنتين فلم يتهن العادل بالملك من بعده وكاد كل واحد منهما ينتظر موت الآخر فلم يصف للعادل العيش بعد موته لأمراض لزمته بعد طول الصحة والخوف من الفرنج بعد طول الأمن‏.‏

وخرجوا يعني الفرنج إلى عكا وتجمعوا على الغور فنزل العادل قبالتهم على بيسان وخفي عليه أن ينزل على عقبة أفيق وكانوا قد هدموا قلعة كوكب وكانت ظهرهم ولم يقبل من الجواسيس ما أخبروه بما عزم عليه الفرنج من الغارة فاغتر بما عودته المقادير من طول السلامة فغشيت الفرنج عسكره على غرة وكان قد آوى إليه خلق من البلاد يعتصمون به فركب مجدًا وماج الفرنج في أثره حتى وصل دمشق على شفًا وهم فدخل إليها فمنعه المعتمد وشجعه وقال له‏:‏ المصلحة أن تقيم بظاهر دمشق‏.‏

وأما الفرنج فاعتقدوا أن هزيمته مكيدة فرجعوا من قرب دمشق بعد ما عادوا في البلاد قتلًا وأسرا وعادوا إلى بلادهم وقصدوا دمياط في البحر فنازلوها‏.‏

وكان قد عرض له قبل ذلك ضعف وصار يعتريه ورم الأنثيين‏.‏

فلما هزته الحيل على خلاف العادة ودخله الرعب لم يبق إلا مدة يسيرة ومات بظاهر دمشق‏.‏

وكان مع حرصه يهين المال عند الشدائد غاية الإهانة ببذله‏.‏

وشرع في بناء قلعة دمشق فقسم أرضها على أمرائه وأولاده وكان الحفارون يحفرون الخندق ويقطعون الحجارة فخرج من تحته خرزة بئر فيها ماء معين‏.‏

قال‏:‏ ودعا مرة فقال‏:‏ الفهم حاسبني حسابًا يسيرًا فقال له رجل ماجن من خواصه‏:‏ يا مولانا إن الله قد يسر حسابك قال‏:‏ ويلك‏!‏ وكيف ذلك قال‏:‏ إذا حاسبك قل له‏:‏ المال كله في قلعة جعبر لم أفرط فيه في قليل ولا كثير‏.‏

وكانت خزائنه بالكرك ثم نقلها إلى قلعة جعبر وبها ولده الملك الحافظ فسول له بعض أصحابه الطمع فيها فأتاها الملك العادل ونقل ما فيها إلى قلعة دمشق فحصلت في قبضة ولده الملك المعظم عيسى فلم ينازعه فيها إخوته وقيل‏:‏ إن الذي سول للحافظ الطمع والعصيان هو المعظم ففعل ذلك الحافظ وكانت مكيدة من المعظم حتى رجع إليه المال ‏"‏‏.‏

انتهى كلام الموفق باختصار‏.‏

وقال أبو المظفر شمس الدين يوسف بن قزأوغلي في تاريخه‏:‏ ‏"‏ سألته عن مولده فقال‏:‏ فتوح الرها يعني سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ‏"‏ - وهذا نقل آخر في مولده - قال‏:‏ وقد ذكرنا أحواله في السنين إلى أن استقر له الملك وامتد من بلاد الكرج إلى همذان والجزيرة والشام ومصر والحجاز ومكة والمدينة واليمن إلى حضرموت وكان ثبتًا خليقًا بالملك حسن التدبير حليمًا صفوحًا مدبرًا للملك على وجه الرضا عادلًا مجاهدًا دينًا عفيفًا متصدقًا آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر طفر جميع ولاياته من الخمور والخواطىء والقمار والمكوس والمظالم‏.‏

وكان الحاصل من هذه الجهات بدمشق على الخصوص مائة ألف دينار فأبطل الجميع لله تعالى‏.‏

وكان واليه على دمشق المبارز والمعتمد أعانه المبارز على ذلك أقام رجالًا على عقاب قاسيون وجبل الثلج وحوالي دمشق بالجامكية والجراية يحرمون أحدًا يدخل دمشق بمنكر‏.‏

بلغني أن بعض المغاني دخلت على العادل في عرس فقال لها‏:‏ أين كنت‏.‏

فقالت‏:‏ ما قدرت أجيء حتى وفيت ما علي للضامن‏.‏

فقال‏:‏ وأي ضامن قالت ضامن القيان فقامت عليه القيامة وطلب المعتمد وعمل به ما لا يليق وقال‏:‏ والله لئن عاد بلغني مثل هذا لأفعلن ولأصنعن‏.‏

ولقد فعل العادل في غلاء مصر عقيب موت العزيز ما لم يفعله غيره كان يخرج في الليل بنفسه ويفرق الأموال في ذوي البيوتات والمساكين وكفن تلك الأيام من ماله ثلاثمائة ألف من الغرباء وكان إذا مرض أو تشوش قال أبو المظفر‏:‏ وقد ذكرنا وصول شيخ الشيوخ إليه بخبر برج دمياط وأنه انزعج وأقام مريضًا إلى يوم الجمعة سابع أو ثامن جمادى الآخرة وتوفي بعالقين‏.‏

وكان المعظم قد كسر الفرنج على القيمون يوم الخميس خامس جمادى الآخرة وقيل يوم الأربعاء‏.‏

ولما توفي العادل لم يعلم بموته غير كريم الذين الخلاطي فأرسل الطير إلى نابلس إلى المعظم فجاء يوم السبت إلى عالقين فاحتاط على الخزائن وصبر العادل وجعله في محفة وعنده خادم يروح عليه وقد رفع طرف سجافها وأظهر أنه مريض ودخلوا به دمشق يوم الأحد والناس يسلمون على الخادم وهو يومئ إلى ناحية العادل ويرد السلام ودخلوا به القلعة وكتموا موته وأمن العجائب أنهم طلبوا له كفنًا فلم يقدروا عليه فأخذوا عمامة الفقيه ابن فارس فكفنوه بها وأخرجوا قطنا من مخدة فلفوه به وصلى عليه وزيره ابن فارس ودفنوه في القلعة‏.‏

قال أبو المظفر‏:‏ وكنت قاعدًا إلى جانب المعظم عند باب الدار التي فيها الإيوان وهو واجم ولم أعلم بحاله فلما دفن أبوه قام قائمًا وشق ثيابه ولطم رأسه ووجهه وكان يومًا عظيمًا وعمل له العزاء ثلاثة أيام بالإيوان الشمالي وعمل له العزاء في الدنيا كلها ونودي ببغداد‏:‏ من أراد الصلاة على الملك العادل الغازي المجاهد في سبيل الله فليحضر إلى جامع القصر فحضر الناس ولم يتخلف سوى الخليفة وصلوا عليه صلاة الغائب وترحموا عليه وتقدموا إلى خطباء الجوامع بأسرهم ففعلوا ذلك بعد صلاة الجمعة‏.‏

وبقي العادل بالقلعة إلى سنة تسع عشرة وستمائة ثم نقل إلى تربته التي أنشأها عند دار العقيقي ومدرسته‏.‏

- قلت‏:‏ لا أعلم ما كان السبب في عدم وجود الكفن القطن للملك العادل مع همة ولده الملك المعظم عيسى وأخذه من عالقين ميتًا في محفة ولم يفطن به أحد‏.‏

وهذا أعظم وأكثر كلفة وأصعب من شراء ثوب بعلبكي وما يحتاج إليه الميت من الحنوط والقطن وغيره فلعل لها عذرًا وأنت تلوم ‏"‏ -‏.‏

قال‏:‏ وكان له عدة أولاد‏:‏ منهم شمس الدين مودود والد الملك الجواد يونس‏.‏

والكامل محمد‏.‏

والأشرف موسى‏.‏

والمعظم عيسى‏.‏

والأوحد أيوب‏.‏

والفائز إبراهيم‏.‏

وشهاب الدين غازي‏.‏

والعزيز عثمان‏.‏

والأمجد حسن‏.‏

والحافظ أرسلان‏.‏

والصالح إسماعيل‏.‏

والمغيث عمر‏.‏

ومجير الدين يعقوب‏.‏

وتقي الدين عباس‏.‏

وقطب الدين أحمد‏.‏

والقاهر إسحاق‏.‏

وخليل أصغرهم‏.‏

وكان له عدة بنات أفضلهن صفية خاتون صاحبة حلب أم الملك العزيز ‏"‏‏.‏

انتهت ترجمة الملك العادل - رحمه الله تعالى -‏.‏

ولما مات العادل استقر كل واحد من أولاده في مملكته فإنه كان قسم ممالكه في أولاده حسب ما تقدم ذكر ذلك كله في صدر هذه الترجمة فالذي كان بمصر الملك الكامل محمد وبالشام المعظم عيسى وبالشرق الأشرف شاه أرمن وباقي أولاده كل واحد في مملكة أو في خدمة أخ من إخوته‏.‏

انتهى‏.‏